جلالة الملك يترأس الدرس الخامس من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية
ترأس أمير المؤمنين صاحب
الجلالة الملك محمد السادس، مرفوقا بولي عهده الأمير مولاي الحسن، وصاحب السمو
الملكي الأمير مولاي رشيد، وصاحب السمو الأمير مولاي إسماعيل، يومه الاثنين 21
رمضان، بالقصر الملكي العامر بالدار البيضاء، الدرس الخامس من سلسلة الدروس
الحسنية الرمضانية، والذي ألقاه بين يدي أمير المؤمنين، السيد "عثمان كان"
أستاذ الفكر الإسلامي بجامعة هارفارد بالولايات المتحدة الأمريكية، متناولا بالدرس
والتحليل موضوع "العلاقات الثقافية والفكرية بين إفريقيا جنوبي الصحراء
والمغرب الكبير".
واستهل المحاضر درسه مؤكدا أن موضوعه مستوحى من قول الله تعالى
في سورة الحجرات: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا و
قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير". موضحا أن هذه
الآيات تضم ست حقائق، وهي أنها تقرر حقائق تهم الناس أجمعين، وعليها يمكن أن تقوم
الإنسانية الحق، وأن الأصل في حقيقة الإنسان أنه لم يوجد بالصدفة ولكنه مخلوق
الله، وأن هذه المساواة في الخلق تترتب عنها مساواة بين الذكر والأنثى، وأن الناس
جعلوا بحكمة الله مجتمعات متفاوتة في الأحجام مختلفة في العلائق، وأن حكمة الله أن
تشكل هذه المجتمعات مجتمعا إنسانيا قائما على التعارف، أي على الاعتراف المتبادل الذي
يضمن التعايش في سلام، وأن مقياس الكرامة المستحقة للإنسان إنما يجوز التفاوت فيها
على أساس الالتزام بالأخلاق المعبر عنها بالتقوى. مضيفا أن السر في بناء الدرس على هذه الآيات هو المقابلة بين دور
المغرب التاريخي والحاضر في ربط وشائج التعامل الثقافي مع عمقه الإفريقي وبين
التوجهات الغربية للفصل بين هذين العالمين عالم المغرب الكبير وعالم جنوبي
الصحراء، لافتا إلى صعوبة تدريس العلوم الإسلامية في الجامعات الغربية بسبب
التقسيم الأكاديمي المعمول به فيها، خاصة في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. عازيا أصل
هذا التقسيم الإقليمي إلى ما أسماه التحيز العنصري للمفكرين الأوروبيين في عصر
التنوير، مسجلا أن مثل هذا التقسيم مستند إلى افتراضات تتجاهل الحقيقة التاريخية
المتمثلة في ما تعزز من وحدة العقيدة الإسلامية واللغة العربية والمذهب المالكي في
نسيج العلاقات بين سكان المغرب الكبير وبين الصحراء الكبرى وافريقيا الغربية،
مشيرا إلى أن هذه الشعوب حافظت على علاقات متبادلة قوية لعدة قرون، مهتدية بنداء
القرآن. لافتا إلى أن الإرث
الاستعماري الغربي له تأثير كبير على المثقفين والأفكار في إفريقيا، مضيفا أنه من
المؤسف أن الافتراضات حول التاريخ الفكري الإفريقي غير صحيحة، ولا تنتشر داخل
المؤسسات الأكاديمية الغربية فقط، بل يميل غالبية المثقفين الذين درسوا في المدارس
ذات المناهج الغربية بإفريقيا، وتحديدا جنوبي الصحراء الكبرى، إلى الاعتقاد بأن
إنتاج المعرفة بدأ مع الاستعمار الأوروبي.
وتابع
الأستاذ "عثمان كان"، مبينا أن الأفارقة
من الشمال والصحراء وبلاد السودان، أسهموا إسهاما كبيرا في المعرفة الإسلامية،
مفيدا بأن شمال إفريقيا فوق الصحراء يعتبر عربيا من حيث لغة التواصل ولا تحتاج
مكانة اللغة العربية في تاريخه الفكري إلى أي دليل إضافي. منبها إلى أن هذا ليس هو حال
جنوب الصحراء المشار إليها باسم بلاد السودان، حيث ظلت الدراسات الإسلامية
السودانية في معظم القرن العشرين غير معروفة للعالم الغربي خارج نطاق دائرة
الباحثين المتخصصين. مشددا، في هذا الصدد، على أن الصحراء لم تكن عائقا أمام
التفاعلات بين الأجزاء المختلفة من القارة الإفريقية، حيث كانت بعكس ذلك، بمثابة
جسر بين شمال المغرب الكبير وبلاد السودان. مبرزا أن البحر
الأحمر شكل بدوره جسرا يربط شرق إفريقيا بشبه الجزيرة العربية قبل الإسلام بعدة
قرون، حيث شارك العلماء المسلمون السودانيون في الشبكات العابرة للمحيط الأطلسي، موضحا
أن سكان شمال إفريقيا والصحراء وجنوب الصحراء الكبرى كانوا على اتصال وثيق دائم،
وربطت طرق تجارية متعددة بين المراكز الرئيسية في المغرب الكبير وبلاد السودان
التي كانت تشتهر بوفرة الذهب فيها.
وسجل المتحدث ذاته، أن الأفارقة في شمال وجنوب الصحراء الكبرى
حافظوا، أيضا، على علاقات متبادلة المنفعة، وكانت الديبلوماسية عاملا في العلاقات
السودانية المغاربية لعدة قرون وهذه حقيقة ثابتة بوثائق التاريخ، على حد قوله. مضيفا
أن المحيط الأطلسي لم يكن عائقا أمام انتشار النفوذ الإسلامي الإفريقي حيث شارك
المسلمون الأفارقة في التجارة الأطلسية التي كان يسيطر عليها الأوروبيون ولم
يكتفوا بنقل الثقافة الإسلامية إلى القارتين الأمريكيتين فحسب، بل قاموا بنشرها
وتوسيعها. مبرزا أن المؤرخين
المغاربة ذكروا إسهام العلماء الأفارقة في تدريس العلم الشرعي. مشيرا إلى أن مراكز
التعليم المغربية، وخصوصا في فاس ومراكش، كانت تجذب الطلاب والعلماء السودانيين
لقرون، لافتا إلى أن مدينة فاس كانت مركزا علميا معروفا في العالم الإسلامي خلال
العصور الوسطى، حيث برز بعض علماء غرب إفريقيا فيها ومنهم "عبد الله البرناوي"
الذي يعد من المرشدين الروحيين للقطب الصوفي سيدي عبد العزيز الدباغ.
فضلا
عن ذلك، أورد المتحدث ذاته أن الشعوب والحكومات
الإفريقية حافظت على علاقات طويلة الأمد مع شمالي إفريقيا لعدة قرون، وكان للطرق
الصوفية ملايين الأتباع في الصحراء وجنوب الصحراء، وبذلك حافظوا على روابط روحية
وفكرية قوية مع شمال إفريقيا، وخاصة مع المغرب لعدة قرون، إذ حافظ العلماء
المسلمون على اتصالات مستمرة على مدى قرون. مؤكدا أن الصحراء الكبرى سهلت مثل هذه
التفاعلات بدلا من أن تشكل عقبة، وتم الحفاظ على هذا التقليد من العلاقات بأشكال
مختلفة خلال فترة ما بعد الاستعمار، مستحضرا أن المغرب أنشأ العديد من الشبكات العلمية التي تجمع بين علماء المغرب والدول
الإفريقية الأخرى كرابطة علماء المغرب والسنغال، مستشهدا بتأسيس مؤسسة رائدة في
هذا المجال، وهي "مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة".
وخلص المحاضر إلى أنه ونظرا لروابط الدين والعلم والأخوة
والمحبة الطويلة التي تربط المسلمين الأفارقة، منذ أيام زيارة إبراهيم الكانمي
للبلاط الموحدي، إلى احتضان إفريقيا للمنتخب المغربي في كأس العالم، فإن التدخلات
الاستعمارية الأخيرة لا يمكن أن تجعلنا ننسى تاريخنا الطويل من النضال والتعلم
والتعليم من بعضنا البعض.
وفي ختام هذا الدرس، تقدم للسلام على أمير المؤمنين صاحب
الجلالة الملك محمد السادس، كل من الأستاذة "ياني زنوبة وحيد" مديرة
معهد وحيد للبحوث الإسلامية بإندونيسيا، والأستاذة "عزيزة يحيى محمد توفيق
الهبري" أستاذة القانون في جامعة ريتشموند سابقا بأمريكا، والأستاذ الشيخ "محمد
الحافظ النحوي" رئيس التجمع الثقافي الإسلامي بموريتانيا وغرب إفريقيا
بالجمهورية الإسلامية الموريتانية، والأستاذ الشيخ "محمد حسين جمال الليل"
مستشار رئيس الجمهورية للشؤون العربية بجمهورية جزر القمر، والأستاذ "مبادنغا
سرجي" رئيس فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بجمهورية الغابون. إضافة إلى الأساتذة "أحمد
محمد جاد الله" رئيس مركز ايقاظ للدراسات السنوسية وإحياء التراث بليبيا، و"عمر
ديل بوزو كاديناس" رئيس مؤسسة مسجد غرناطة بإسبانيا، والشيخ "محمد مداني
طال" خليفة الشيخ منتقى طال بجمهورية السنغال، و"أرشد محمد "عضو
فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بجمهورية جنوب إفريقيا، و"إبراهيم
كوليبالي" عضو الاتحاد الوطني لمريدي الطريقة التيجانية بمالي، والشيخ "عبد
الله محمد الماحي نياس" المسؤول عن الشراكات والعلاقات الخارجية للاتحاد
الإسلامي الإفريقي بجمهورية السنغال، و"بشير طاهر عثمان" مدير كلية القراءات
بولاية بوتشي بجمهورية نيجيريا الاتحادية.