تقاليد جاجوكة العريقة تحل في قلب جنان السبيل بفاس

في أجواء حميمة غمرتها الظلال الناعمة والأنوار الخافتة، صدحت مساء الأحد الموسيقى العريقة القادمة من قرية جاجوكة ، داخل الحديقة الهادئة "جنان السبيل"، كأنها نفس صوفي قادم من أعماق الزمن، بقيادة المعلم بشير عطار.
وقد غاص الجمهور، الجالس في جو مفعم بالسكون والتأمل، في حالة من النشوة الصوفية
منذ الأنغام الأولى للمزامير المغاربية، مدفوعة بنفس مستمر لأساتذة الموسيقى
الريفية.
حيث تحول فضاء جنان السبيل، البعيد عن ضجيج المدينة، إلى معبد صوتي حقيقي، نسجت فيه
الإيقاعات والنايات و"الغيطة" جسرا مقدسا بين الأرض والسماء.
وتجسد موسيقى جاجوكة، التي تنقل من جيل إلى جيل، فنا عريقا ينبض بالروحانية والعمق
الصوفي والذبذبات المكثفة. ويعيد الصوت الخام والقوي لآلاتها النفخية إلى الأذهان ،
أنماطا موسيقية مرتبطة بيقظات روحية وطقوس احتفالية.
وقد أكد المعلم بشير عطار أن موسيقى جاجوكة تعد فنا ضاربا في القدم، متجذرا في
تاريخ المغرب، مشيرا إلى أن المؤرخ ابن خلدون تحدث عنها في القرن الرابع عشر.
وأن هذا اللون الموسيقي، المنحدر من "العيطة الجبلية"، كان مرتبطا لسنوات
ببلاط السلاطين المغاربة، ويعتبر أحد أركان الموسيقى الروحية والاحتفالية
بالمملكة، مبرزا أن هذه التعبيرات الفنية، المتوارثة أبا عن جد، ليست مجرد إرث
موسيقي فحسب، بل تمثل أحد المعالم القوية لهوية المغرب، وتجسد ثراءه الثقافي
وتاريخه العريق الممتد لقرون.
وفي أول مشاركة لهم بمهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة، والثانية فقط بمهرجان
مغربي، يجسد حضور أساتذة جاجوكة عودة رمزية إلى الساحة الوطنية بعد أن حملوا هذا
التراث لسنوات طويلة إلى منصات دولية.
ولم تكن هذه الأمسية مجرد عرض فني فحسب، بل استحضرت فصلا كاملا من التاريخ
الموسيقي والثقافي المغربي، تعود جذوره إلى قرية صغيرة عند سفوح الريف، تحولت في
ستينيات القرن الماضي إلى مصدر إلهام لجيل "البيت" ولرموز الموسيقى
النفسية الغربية.
وتندرج هذه الليلة الساحرة، الواقعة بين المقدس والطبيعي، في إطار الرؤية التي
يتبناها مهرجان فاس للموسيقى الروحية العالمية، الساعية إلى خلق حوار حي بين
التقاليد الروحية العميقة، ومنح الجمهور تجربة حسية فريدة داخل أنفاس الموسيقى
الكونية الخالدة.