الأرجنتين هل تضمد جراح انقلاب سنة 1976
على حين غرة طفا على سطح المشهد السياسي الأرجنتيني رقم
الثلاثين ألف شخص الذين اختفوا في ظل الديكتاتورية، وهو رقم يعتبره البعض منطقيا
على غرار المنظمات الحقوقية ، فيما يراه البعض الآخر غير ذلك ، ما زاد من تأجيج
الوضع وتغذية الخلافات . حيث تفجرت خلافات عميقة بين الحكومة الليبرالية المتطرفة
في الأرجنتين والمعارضة اليسارية، بمناسبة تخليد الذكرى الثامنة والأربعين لانقلاب
عام 1976، حيث يسوق البعض اتهامات بتحريف الوقائع بينما يطالب البعض الآخر بـ
"ذاكرة كاملة غير منقوصة".
ولم يسبق لهذه الذكرى، خلال العقود الأربعة التي أعقبت نهاية الدكتاتورية العسكرية
عام 1983، أن أثارت مثل هذا الجدل والتأويلات المتباينة حول الظروف التي سبقت
انقلاب 24 مارس 1976 ضد الرئيسة إيزابيل بيرون، عقيلة خوان دومينغو بيرون، الشخصية
المركزية في التاريخ السياسي للأرجنتين.
فقبل وصوله إلى كرسي الرئاسة في دجنبر الماضي، شكك خافيير ميلي في صحة هذا الرقم
الذي يعتبره مبالغا فيه . كما نشرت الرئاسة الأرجنتينية، الأحد الماضي، شريط فيديو
مدته 12 دقيقة يعرض روايتها الخاصة للوقائع، والتي تعتبر أن المتمردين الذين
واجههم الجيش نفذوا هجمات ضد الأبرياء.
وذهب الفيديوأبعد من ذلك عندما قدم شهادة مقاتل سابق اعترف ب "اختلاق"
رقم 30 ألف "مختف" للحصول على الأموال من الخارج. فأثار الفيديو ضجة
كبيرة
وأيد الرئيس ميلي هذه الرواية على حسابه على موقع "إكس"، مطالبا ب
"ذاكرة كاملة غير منقوصة من أجل سيادة الحقيقة والعدالة".
وكان يشير بشكل خاص إلى العدد الكبير من الضحايا المدنيين والعسكريين، الذين سقطوا
إثر الهجمات والاغتيالات المستهدفة التي ارتكبها مقاتلو "حرب العصابات"
خلال السبعينيات.
وسارت نائبته ورئيسة مجلس الشيوخ، فيكتوريا فيلارويل، على نفس المنوال، حيث كتبت
على شبكة التواصل الاجتماعي أن "حقوق الإنسان للجميع، والذاكرة كذلك، والحقيقة
والعدالة وجبر الضرر لضحايا الإرهاب. ولا يمكن للمسؤولين عن هذه الجرائم أن يفلتوا
من العقاب"، مشيرة بذلك إلى ضحايا العصابات الماركسية والتروتسكية في
السبعينيات.
ونددت وزيرة الأمن، باتريشيا بولريتش، التي كانت في شبابها مقربة من حركة عصابات
تسمى "المونتونيروس"، بمن نسجوا "رواية عن المأساة وفقا لمصالحهم
الأيديولوجية، دون مراعاة للضحايا، ولا لجروحهم العميقة"، مضيفة أن
"التغيير يأتي أيضا من خلال الاعتراف بأن نصف الحقيقة لا يمثل الحقيقة
بكاملها". بل ذهبت إلى أبعد من ذلك من خلال المطالبة بالإفراج عن الجنود
الذين لا يزالون يقبعون في السجن بتهمة الاشتباه في مشاركتهم في أعمال القمع.
وأثارت هذه المواقف، التي كانت غير مسموعة تقريبا في الماضي، استهجان الحركة
الحقوقية القوية في الأرجنتين وكذا العديد من المنظمات الاجتماعية التي ما فتئت
تطالب بتسليط الضوء على "إرهاب الدولة" في ظل الديكتاتورية . منها "جمعية
جدات ساحة ماي" رائدة هذه الحركة
ونددت رئيستها إستيلا كارلوتو (93 عاما)، خلال تجمع لإحياء ذكرى الانقلاب،
بـ"استفزازات حكومة مايلي وفيارويل"، مضيفة أنه "لا يزال على عاتق
الديمقراطية دين يجب دفعه، والمتمثل في استعادة هوية نحو 300 شخص، معظمهم ولدوا في
أجنحة الولادة السرية للديكتاتورية." مضيفة " أمام حكومة تنوي استعادة
نظرية الشيطانين (الدكتاتورية ومجموعات حرب العصابات) وتتبنى إرهاب الدولة، نطالب
باعتماد قانون ضد الإنكار، يعاقب الموظفين الذين يحتقرون ضحايا هذه الجرائم".
وقد انتقد أعضاء في الحكومة تصريحات إستيلا كارلوتو، وقرر مدعي عام متابعتها، على
الرغم من سنها المتقدم ، بتهمة "الدعوة إلى التمرد" ضد الرئيس ميلي.
وبهذه المناسبة، اختارت الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر (2007-2015) أن تذكر
بالفظائع التي ارتكبت في مركز سري
للاحتجاز (كلية الميكانيك التابعة للبحرية -ESMA)، المدرج من قبل اليونسكو ضمن قائمة التراث
الإنساني العالمي.وأعرب ابنها ، النائب البرلماني ماكسيمو كيرشنر، عن أسفه لكون
الحكومة الحالية تؤسس ل "حالة من الازدراء للماضي، والرفاق المختفين ،
والتعذيب، وتبني الأطفال كما أنه لا يمكن أن تكون هناك درجة من التعاطف مع الآلام
والمعاناة".
وعبر عن هذا الشعور آلاف الأرجنتينيين، الذين نظموا مسيرات في مختلف أنحاء البلاد
الأحد الماضي، تخليدا للذكرى الثامنة والأربعين للانقلاب العسكري.
ويظهر الشعار الذي رفعه المتظاهرون "لدينا 30 ألف سبب للدفاع عن الوطن"
مدى عمق الخلافات التي تؤجج المشهد السياسي في الأرجنتين .
وتشير هذه المواقف المتناقضة والمشحونة لطرفي المشهد السياسي في الأرجنتين إلى
حقيقة واحدة، ألا وهي أن الخلافات ذات دلالات تاريخية ليست سوى في بداياتها، فيما
تداعياتها تبقى مفتوحة على كل الاحتمالات .