اعتقال عميل استخبارات يشعل أزمة جديدة بين باريس وباماك

تتفاقم الأزمة بين فرنسا ومالي في ظل تصاعد التوترات السياسية والدبلوماسية بين البلدين منذ استيلاء المجلس العسكري على الحكم عام 2020، لتبلغ ذروتها مؤخرا عقب اعتقال أحد عناصر الاستخبارات الفرنسية في العاصمة باماكو، في حادثة غير مسبوقة هزت العلاقات الثنائية وأعادت طرح سؤال النفوذ الفرنسي في منطقة الساحل الإفريقي.
ووفق ما أوردته صحيفة لوموند، فإن الضابط الفرنسي (Yann V)، المنتمي إلى الإدارة العامة للأمن الخارجي (DGSE)، اعتقل في 14 غشت الماضي، رغم كونه معتمدا رسميا بصفته دبلوماسيا يشغل منصب السكرتير الثاني في سفارة باريس. واتهمته السلطات المالية بالمشاركة في "محاولة زعزعة الاستقرار"، وأعلنت امتلاكها "أدلة دامغة" ضده.
في المقابل، اعتبرت باريس الحادثة "عملا عدائيا" و"خرقا فاضحا للأعراف الدبلوماسية"، مطالبة بـ"إطلاق سراحه الفوري"، ومؤكدة أن اعتقاله يمثل انتهاكا لاتفاقية فيينا.
أشارت لوموند إلى أن "أجهزة الاستخبارات عادةً ما تبقى آخر قناة حوار بين الدول، مهما بلغت الخلافات"، مضيفة أن توقيف العميل الفرنسي أدى إلى انقطاع الخيط الأخير الذي كان يربط باريس بباماكو، في وقت تتراجع فيه مكانة فرنسا لصالح النفوذ الروسي المتنامي.
وعلى عكس النيجر وبوركينا فاسو اللتين شكلتا مع مالي ما يعرف بـ"تحالف دول الساحل (AES)" – حافظت باماكو على تعاون استخباراتي محدود وسري مع باريس بعد عام 2020، شمل دعما تقنيا في مراقبة الاتصالات، قبل أن يتوقف تدريجيا مع طرد القوات الفرنسية عام 2022.
في بداية الانقلاب العسكري عام 2020، تعاملت باريس بـ"تفاؤل حذر" مع المجلس العسكري بقيادة الجنرال آسيمي غويتا، لكنها سرعان ما فقدت الثقة بعد انقلاب ثان في ماي 2021 أطاح بالحكومة الانتقالية المدنية، ما دفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى وصف الحدث بـ"الانقلاب داخل الانقلاب". ومنذ ذلك الحين، اتجهت العلاقات نحو القطيعة الكاملة.
ومع انتشار مرتزقة مجموعة فاغنر الروسية في ديسمبر الأول 2021، رأت باريس أن باماكو تجاوزت الخط الأحمر، بينما صعد العسكريون الماليون خطابهم ضد فرنسا متهمينها بـ"إشعال الأزمات الداخلية".
مع احتدام الأزمة، أصبحت أدوات الضغط الفرنسية محدودة. ووفق مصادر دبلوماسية، لجأت باريس إلى طلب وساطة شركاء أوروبيين وأفارقة للإفراج عن عنصرها المعتقل.
ورغم هذا التدهور، يعتقد مسؤولون سابقون في باماكو أن العلاقات لن تقطع نهائيا. وقال وزير سابق في حكومة الرئيس الراحل إبراهيم بوبكر كيتا إن "الاتصال سيستأنف عاجلا أم آجلا، فالمجتمعان متداخلان بشدة، وهناك آلاف من حاملي الجنسيتين وجالية مالية كبيرة في فرنسا".
بالنسبة لفرنسا، لا تمثل الأزمة مجرد خلاف سياسي، بل مؤشرا على تقلص نفوذها التاريخي في الساحل الإفريقي، حيث تتوسع الجماعات المتشددة مستفيدة من الفوضى الأمنية، فيما تملأ روسيا تدريجيا الفراغ السياسي والعسكري الذي خلّفته باريس.
وهكذا، يبدو أن اعتقال عميل واحد لم يكن سوى شرارة جديدة في صراع أوسع على النفوذ والشرعية في قلب إفريقيا.